كـلا ... فما صَـدق الناعـى ولا الخبـرُ | وتلك أعـلامُك الغــراءُ تنتظــرُ | |
يا باعث الروح فى الموتى : الطِّرادُ(1) دنا | والخيـل تصهـل والميـدان يستعـر | |
والقـدس من لوعـة اللقيـا لناصــرها | تهفو بأرجائهـا الآيــاتُ والسـورُ | |
وهللت خـلفَ حطيـــنٍ كتائبُهــــا | وافتــر مـكتئبٌ ، واشتد مُنكسـرُ | |
كلا ، وفى ذروة الأحــلام مـوعدنــا | والعطــر أوشك أن يُفضى به الزَّهر | |
أَيَدْلَهِمُّ الدجـى ، فالليــــل لا قـبسٌ | وتستكن المنــى فاللــحن لا وتـرُ | |
ودمعــة فى مآقــى المجــد حائـرةٌ | يجــرى بها الفلك الـدوار والقـدرُ | |
فى سكـرة من جنـون الليـل عابثـــةٍ | أطيافُهــا اللهبُ المحمـوم والنـذرُ | |
تَدْوى بها فى المــدى النيــران خاسرة ً | فكل صيحـة أُمٍّ مــدفــعٌ هَــدِرُ | |
مددت طرفــى لما جـــال جـــائلُه | فى مشهد الـروع عاد الطرف ينحسرُ | |
أقسى على الوطـن المكسـورِ جـانحُـه | جــرحٌ يسيل وشعب فيـه ينتحـرُ | |
تأبى فلسطيــن أن ينســابَ مـن دمنا | فى غير ساحتهــا الحمـراء مُنهمرُ | |
تأبى ، ويأبــى أبو الأحــرار ما لمعت | إلا على فُرقــةٍ أحــلامنا الغـررُ | |
إيهٍ أبا خــــــالـدٍ يـا ليت كلَّ دمٍ | حَقنتَ فــداكَ لمــا جئت تنتصـر | |
لما حملت همــوم الشــرق فازدحـمت | تستافِ من قلبــك الحانى وتعتصـرُ | |
ناديتهم ونَـدَاك السمــح يجمعهــــم | وكم زهــا بـك فى ناديـك مؤتمرُ | |
حتى إذا عقدوا للخيـــر أمــرهُـــمُ | ودعتهم .. ورسـول الموت ينتظر .. | |
أنت الشهيــد ، وهــذى الشمس باكيـة | والليل والكــوكب اللّمـاح والقمـرُ | |
أنت الشهيــد ، وكـم أحييتَ مـن أُمـم | فأنت حـى على التاريـخ مزدهرُ ... | |
ركبتَ من صهـوات العــزم أخشنهـا | والحـر هـان عليه المـركبُ الوعرُ | |
وسعتَ دنيـاك فانسـاقت جــوانبهــا | وكل بُعــدٍ إذا ناديـت يُختصــرُ | |
لهفـى عليك حملت العبء منفــــرداً | حتى شكــا لك منك العبءُ يعتـذرُ | |
فكم بقبـرك آمــــال مجنحــــةٌ | وكم تسـاقط فيـك الـزهر والثمـر | |
أتيتُ يومـك سـاهى الطـرف خاشعــهُ | والحـزن يصـرخُ ، والآلام تسـتترُ | |
والصـدر بالصـدر آهـاتٌ ممزقـــة | والهامُ مطـرقـةٌ والـدمــع يبتدرُ | |
قضى جمال .. ودوت فى المـدى وسـرت | فالجـو من زفـرات الهـول منفطرُ | |
قضى جمال .. وغص النيـل وارتـجفت | أمـواجه واشـرأب الورد والصـدرُ | |
قضى جمال .. ونـاح الســدُّ وانتـحبت | على صـدى صوته الأهرام والعُصُر | |
قضى جمال .. ومــاج الشعب فى هلـع | كالبحـر مصطخبـاً والسيـل ينحدرُ | |
نــادوا عليــه "حبيب الله" فاختلجت | فى سـدرة المنتهى أوراقهـا الخُضُر | |
مَنْ فارسٌ عربـىُّ الطــيف مشتمـــل | بالسـيف معتقل بالـرمـح معتمــرُ | |
ألقت على مقلتيـه الكبـريــاء سنــىً | فالمجــد من عينـه ما يمنح النظرُ | |
من ذلك الأسمــر الممشــوق كحَّــله | سهد الدجـى ، وجـلاه اليمن والظفرُ | |
من ذلك الشـاهق الجبــال أنجبــــه | وادى النــدى ونمته فى العلا مُضَرُ | |
جمال ، يا منيــة الشعب الذى دمــيت | أكفـه ، وبــراه فى السـرى السفر | |
سالت علـى عتبات البغـــى أدمعــه | وقد تقلــم منه النـــاب والظفـرُ | |
آلى على الحــق أن يحيــى فكـان له | فى كل معتــرك عــزٌ ومفتخـرُ | |
مواكب الشهـــداء الغــرّ مــا فتئت | خطارةً ، والثــرى من حولها عَطِر | |
مصــارع للفــدائييـــن هش لهــا | مسرى النبــىِّ وحن الركن والحجرُ | |
تدافعوا كهزيـــم الرعــد وانطلقــوا | عبر الشهــادة لليــوم الذى نذروا | |
ضاقت بمثواهــم الأرض التـى اتسعت | فرحبت باللقاء الأنــجـم الـزُهُـر | |
وثورةٍ من ضـفاف النيـل عــارمــةٍ | يرتاع من هــولها المستعمرُ الأَشِرُ | |
كأنما هى فى الآفـــــاق عاصفــةٌ | تجتاح من رمــم الماضـى ولا تذرُ | |
لَمَّ البغــاة عليها كل مـــا حشــدوا | ووهجهــا فى ضميــر الله مستعرُ | |
ما قام من علــم حــر على أفــــق | إلا وفى ومضــة من ومضهـا أثرُ | |
من ههنا، من قنــاة البـــأس رجعتنـا | والـزحف والجحفل الجـرار والنفرُ | |
وخفق راياتنــا ما نــال من وطـــر | إلا وكان له مــن بعــده وطــرُ | |
إرادة الشعب تُعيــى كلَّ معجــــزة | إذا الطغـاة على خمـر الأذى سكروا | |
أأشتفى ، وهــواه الطـلق فى كبــدى | وأكتفى ، وبنـات الشعـر تبتكر ؟!! | |
وذكرياتــى إذا غيبتهـــا انبـــعثت | فكل طرفـــة عيــن خلفهـا ذِكَرُ | |
وكم يطيب على رجــع الهــوى أجلٌ | وكم يضيـق غـداة الوحشـة العُمُـرُ | |
ومسنى اليأس لـولا عصبــةٌ صــدقت | وعْداً ، وشــد عـراها عهدُه النضُر | |
ترعـى الرئاسـة فهـى اليـوم زاهيــة | شماءُ ، لا عــوجٌ فيهــا ولا زورُ | |
يا ســاكن النيـل والأظــلال وارفـة | وفى حمــاك المنـى تنأى بها السيرُ | |
أتيتُ أحمــل أحـزانـى وأســـكبها | قصيــدةً فى حفيف الشــوق تنتثرُ | |
أزفها عن بنــى الأُردُنِّ تعــزيـــة | حــرّى ، ترددها الآصــال والبُكُرُ | |
تستلهم العــزم من ذكــرى مُعنبرةٍ (2) | أريجهــا بفضـاء الأرض منتشـرُ | |
*
انظر عبد المنعم الرفاعى، "رثاء"، من مراثى الشعراء فى ذكرى الزعيم الخالد "جمال عبد الناصر"،
(القاهرة : مطبوعات المجلس الأعلى لرعاية االفنون والآداب والعلوم الاجتماعية،
1973)، ص 159 – 164 . |