وقف الطفل وحيدا عند أبواب المدينة

حيث طافت فرحة الناس بألحان حزينة

صيفها يسقط أشجانا على شمس هجينه

وشتاها ثاكل معقوصة الوجه مهينه

ناسها والسأم الغث خدين وخدينه

لبسوا من كاذب البهجة بالأفراح زينه

وعلى أعيادهم غنت كآبات دفينه

مثل أنغام تشردن بأطراف السكينة

فرحت أو حزنت لا فرق .. فالدنيا حزينة

يا لها وحشا عتيقا هائلا هذى المدينة

يشرب السمار فيها قهوة الصبح السخينة

ومع القهوة أمجادا قديمات خزينة

إن تشاهدهم تقل : قد أكل الوحش جنينه

* * *

وهى فى أحزانها عرس قصور الأمراء

حيثما تطرح كالبسط وجوه الأثرياء

أخرجت للهو مجرورا بأذيال الشقاء

مثلما تغتصب البسمة من غيم البكاء

ومضت تفرح أفراح السبايا والإماء

دمية مسحوقة الصدر بأيدى الغرباء

وعلى الحائط سيف الفتح مسلوب الحياء

فاجر النظرة مشحون بتاريخ البغاء

بعواء الجشع الموصول خبثاً بعواء

فرس يصهل فى الوديان مكتوم الرجاء

ما بدا صوت لمصغ منه أو شكل لرائى

* * *

ومشى الطفل كئيباً بين أطفال صغار

لهوهم برد الأماسى ورمضاء النهار

تحت شمس يدفأ بها ناراً بنار

تحت نجم وصوصت عيناه كاللص المدارى

ولدوا كالأحجر السود وهانوا كالغبار

زرعوا فى الأرض كاليبس كأشواك القفار

كالشجيرات الضعيفات بأطراف الصحارى

إن جروا ما تركت أقدامهم آثار جار

عيدهم أن ينظروا فى القصر أعياد "الكبار"

ويروا ، والحرس الميمون لماع الشفار

مركبات طهمت ، فيها ملوك وجوارى

* * *

ومضى الطفل عن الأصحاب فى دنيا وحيده

وبعينيه لهم قد رسمت رؤيا سعيدة

وغد بالنجم مربوط وبالشمس الوليدة

سوف يعطيهم على الأيام أشكالاً جديدة

ووجوها لا يرى التاريخ فيهن عبيده

أيها التاريخ قف ! لا صلب التاريخ جيده

لن ترى بالبوس قناصاً وبالشرق طريده

أنت يا صياد قد جاءك نسر لن تصيده

حطم المصرى منذ الآن يا نذل قيوده

يا لطفل سطر العزم بعينيه نشيده

ثورة المتعب فى جنبيه قد صارت عقيدة

إنها، فى كل ما غنى الورى ، أغلى قصيدةْ

* * *

ونمت مصر بجفنيه سؤالاً وجوابا

ورأى الشرق فتاه مارداً شق الحجابا

يركب الريح جوادا ويدق الصبح بابا

ويعرى من طغاة الشرق والغرب ذئابا

وعوى من ألم من ورثوا الدنيا اغتصابا

وجنوا من دمعة المحروم للفحش شرابا

آية المارد أن يحدث فى الشرق انقلابا

وقف المارد والأهوال تنصب انصبابا

فوق متن المرجل الصاهل وقداً واضطرابا

من على صهوته دق على الماضين بابا

فرأى الأطفال قد غابوا مع الماضى وغابا

حيث كانت لعب الأطفال طيناً وترابا

حيث كانت فرحة الأطفال أن يلقوا سرابا

وجرى المارد فوق البحر يجتاح العبابا

ماله أن يضع اليوم على الأرض ركابا

قبل أن يغترف الأرض شعاباً فشعابا

ويخوض الليل والسيل صراعاً وغلابا

فى أجيج كان للحرية الحمراء بابا

* * *

وقف المارد كالليل وحيداً ، كالسؤال

وحواليه ظلال له ماجت بظلال

ود لو يخرج من آت من الدهر وخال

ود لو يسند كتفيه إلى وجه الهلال

وبكفيه حسام من شكايات الليالى

يقطع الهضب بحديه وهامات الجبال

إن تعق نسمة حب هدهدت أرض القنال

أو ظلال البدر إن يفرح صغير بالظلال

بما يسلم روح السلم يوماً بالقتال

ورأى العالم بالمارد مولود خيال

من حكايات بلادى ، من أساطير الأوالى

قل لهم : لا ! إنه الثورة فى بال الليالى

إنه الفكر الذى حركه طول النكال

إنه القلب الذى أوجعه بؤس المال

إنه الطفل الذى أحرقه حر الرمال

إنه المتعب فى غمرة أحزان طوال

إنه الشعب الذى يسكنه حب الجمال

إنه الإنسان فى أصفى وفى أبسط حال

لم يك المارد إلا كل وجدان الرجال

لقى المارد فى أنفاسه بحر اللآلى

ومضى فى زرقة الجو مضى النسر الكبير

وبكى سرب من الطير إلى النسر يشير

ولوت أعناقها الأشجار ودت لو تطير

أو يعود النسر للذروة تحدوه نسور

سيعود النسر يلقاه حبيب وعشير

بصدى المعول ، والحقل ثمارٌ وزهور

بانفتاح السهل يلهو فيه نهرٌ وغدير

وبمجداف له فى صفحة النيل سطور

وبشباك يغنى فيه عصفور صغير

سيعود النسر والأطفال ملك وأمير

سيعود النسر للعالم ، والدنيا ضمير

لا ذرا تعلو إلى فوق ولا واد يغور

ويرى الشرق وقد حصنه الحب الكثير

ومن الإيمان بالإنسان حول الشرق سور

 

* جورج قرداق ، قصيدة ، (فى): حسن توفيق : الزعيم فى قلوب الشعراء ، (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، 2002)، ص 526 ـ 532.