وفى لحظة .. أسقط الغيب فيها على كل شئ أسى لا يراه

عميقٌ .. عميقٌ .. كجب .. الظنون ، على كل حس تلاشى مداه

سحيقٌ .. سحيقٌ .. كما لو نزحت من الروح كل حياة الحياه

وطيرٌ يحط بلا أى غصن

على شجر موغل فى كراه

يفر .. كما لو أحس الغناء

يطارده من زوايا صداه

ويرتد .. حيران هذى رباه ،

وهذى الخمائل فيها هواه ..

يمر ، ويمضى ، ويأتى خفياً

ويمرق فى الوهم كل اتجاهّ !

تحسست وجهى ،

لعلى ألامس طيفاً على أى طيف رماه

تحسست صدرى ،

لعلى أصافح سراً توارت به راحتاه

تحسست حولى جحوظ الأثير ،

وتحديقه فى مرايا فضاه

وأمعنت فى درب ذاتى لعلى ،

تناسخت أخرى وضلت سراه !

لعلى صهرت المدى وانتهيت

إلى أبعد البعد فى منتهاه ..

وصمت يطل .. ضرير السكون

تلجلج .. لم يدر ماذا دهاه !

تحير فيه ارتقاب الوجود

وماذا يكون ! وماذا عساه !

تراءيت فى عينه جازراً ،

ومذبحة أخفتتها يداه

وسهماً يصوبه ، لا أراه ،

وإن كنت فى هلع من رؤاه ..

أخاف على جبهتى

بعدما سنا الشمس رش عليها ضحاه !

.. أخاف على خطوتى

بعدما جثا الرق يدفن فيها خطاه !

ويهرب فى الأمس عبر القرون

يسلى دجاها بذكرى دجاه !

.. أخاف على زهرتى

بعدما أعادت لى العطر ،

يسقى الذى من يديه سقاه

أخاف ..

وظل اندهاشى يدور

وتضرب فى كل كرب عصاه

وحولى كئوس الغروب الحزين

محطمة فوق كل الشفاه ..

.. وشق النعى عذاب السكون

وعاصفة دمدمت بالجنون

وتصرخ .. لا .. لن يكون !!

يموت الضحى .. والضياء العميق الذى بثه لا يموت !

أباريقه لا تزول ، بقلب الغصون

يموت الصباح .. وموج السنا بعده .. لا يموت !

مصابيحه لا تحول ، بخفق الجفون

يموت الزمان .. وما شبهه فى المدى .. لا يموت !

مشاعله فى الليالى تجول بخطو السنين ..

ولو أنها من من غيوب الإله ،

مقادير تلجم سر الحياه ،

فإن المسجى على راحة الخلد .. حى .. وثائر

وما زال .. لم يمض ناصر!!

.. فما زال فى الدرب حياً

وما زال للثائرين اندلاعاً ووحياً

وما زال يرفع للسالكين المبادئ

ويعطى شذاها لكل الشواطئ ..

تعاليت .. يا مالك السر !!

سمع الملايين ما زال يصغى لصوته

ويجهش بالدمع حين يراه بصمته

على خطوة الكادحين

وفى أوجه الشرفاء ،

وفى نظرة الفقراء ،

وفى كل فأس بكف السنين

وفى كل صفصافة كفكفت

بأوراقها أدمع المتعبين

حيارى التراحيل ، أهل المعاول

والدمع ، أهل الأنين

وفى قبضة الزاحفين ،

وفى صيحة الثائرين ،

وفى زأرة السود وهى تذيب العناصر

لسحق الفوارق بين الوجوه على كل سائر

وفى المسجد المستجير الحزين

وفى القدس وهى تناديه من فتكة الغاصبين

وفى كل حبة رمل وشاطئ

سناه يضوئ كل المرافئ

وفى كل شئ ضياه

مع الشمس ما زال يعطى الحياة

لكل الذين أرادوا الحياه

ورغم انطفاء السراج على عتبات الجسد

فما زال منه السنا هادراً للأبد !!

تحلق راياته فى المآذن

وتنطق آياته فى القرى والمدائن

وما دام فى الأرض حر وثائر

وما دام فيها حياه

فما مات ناصر ..

ولا غربت من يديه الحياة !!.

 


* محمود حسن إسماعيل، "من لحظة الحزن العظيم"، مجلة الهلال، (القاهرة: دار الهلال، نوفمبر 1970)، ص 10-15.