زمانـك بستـانٌ .. وعصـركَ أخضرُ | وذكـراكَ ، عصـفورٌ مـن القلب ينقرُ | |
ملأنا لك الأقــداحَ ، يا مــن بِحُبّـه | سكِـرنا ، كما الصـوفىّ بالله يســكرُ | |
دخلت على تاريخنـــا ذات ليلـــةٍ | فرائحــةُ التاريــخ مسكٌ وعنبــرُ | |
وكنت َ، فكـانت فى الحقــول سنابلٌ | وكانت عصــافير ٌ.. وكان صــنوبرُ | |
لمسْتَ أمانينــا ، فصــارتْ جداولاً | وأمطــرتنا حبّـا ، ولا زلتَ تمطــرُ | |
تأخّــرت عن وعــد الهوى يا حبيبنا | وما كنت عن وعــد الهــوى تتأخرُ | |
سَهِدْنا .. وفكّــرنا .. وشاخت دموعنـا | وشابت ليالينــا ، وما كنت تحضــُرُ | |
تعاودنـــى ذكــراك كلّ عشيّــةٍ | ويورق فكـــرى حين فيــك أفكّر .. | |
وتأبى جراحـــى أن تضــمّ شفاهها | كأن جــراح الحــبّ لا تتخثّـــرُ | |
أحبّك لا تفسيــر عنــدى لصَبْوتـى | أفسّـر ماذا ؟ والهـــوى لا يفسَّــر | |
تأخرت يا أغلـى الرجـــال ، فليلنـا | طويـل ، وأضــواء القناديـل تسهرُ | |
تأخّـرت .. فالسـاعات تـأكل نفسهـا | وأيامنا فــى بعضهــــا تتعثّــرُ | |
أتسأل عن أعمــارنا ؟ أنت عمــرنا | وأنت لنا المهــدىّ .. أنت المحــرّرُ | |
وأنت أبو الثــورات ، أنت وقـودهـا | وأنت انبعـاث الأرض، أنت التغيّــرُ | |
تضيق قبـور الميتيــن بمــن بهـا | وفى كل يــوم أنت فــى القبر تكبرُ | |
تأخــرت عنّا .. فالجيــاد حـزينـة | وسيفك مـن أشـواقه ، كـاد يكفـــرُ | |
حصانـك فـى سينـاء يشـرب دمعَهُ | ويا لعــذاب الخيــل ، إذ تتـذكـّرُ | |
وراياتك الخضــراء تمضــغ دربها | وفـوقك آلاف الأكاليــل تُضـــْفَرُ | |
تأخــرت عنا .. فالمسيــح معـذّبٌ | هناك ، وجــرح المجــدلية أحمرُ .. | |
نساء فلسطيـنٍ تكحّلـن بالأســــى | وفى بيت لحــمٍ قاصـراتٌ .. وقصّرُ | |
وليمونُ يـافـا يـابسٌ فـى حقولــهِ | وهل شجــرٌ فى قبضـة الظلم يُزهرُ ؟ | |
رفيق صــلاح الدين .. هل لك عودةٌ | فإن جيـوش الــروم تنهــى وتأمرُ | |
رفاقك فى الأغــوار شـدّوا سُروجَهم | وجنـدك فى حِطِّين ، صلّوا .. وكبّروا .. | |
تُغنّـى بـك الدّنيــا .. كأنك طـارقٌ | على بـركات الله ، يرســو .. ويُبحرُ | |
تناديـك من شــوقٍ مـآذنُ مكّــةٍ | وتبكيـك بَــدر ٌ، يا حبيبـى ، وخيبرُ | |
ويبكيـك صـفصاف الشــام ووردها | ويبكيـك زهـرُ الغـوطتين ، ودُمَّــرُ | |
تعال إلينــا .. فالمــروءات أطرقتْ | وموطــن آبائــى زجـاج مكسّرُ .. | |
هزمنـا .. ومـا زلنـا شِتـاتَ قبائـلِ | تعيشُ على الحقــد الدفيــن وتثـأرُ | |
رفيق صــلاح الدين .. هل لك عـودةٌ | فإن جيـوش الــروم تنهـى ، وتأمرُ | |
يحاصــرنا كالمــوت ألفُ خليفــةً | ففى الشرق هولاكو .. وفى الغرب قيصرُ | |
أبا خالـد أشكـو إليــك مـواجعـى | ومثلــى له عــذرٌ .. ومثلك يعــذرُ | |
أنا شجــرُ الأحــزان ، أنـزفُ دائماً | وفى الثلـج والأنـواءِ .. أعطـى وأُثمرُ | |
يثيـرُ حــزيـرانٌ جنونـى ونقْمتَـى | فأغتال أوثانــى .. وأبكـى .. وأكفـرُ | |
وأذبــح أهـلَ الكـهف فـوق فراشهم | جميعاً ، ومن بـوّابـة المــوت أعبرُ | |
وأتـرك خلفــى ناقتـى وعباءتــى | وأمشى .. أنا فى رَقْبــة الشمس خِنجرُ | |
وأصـرخُ : يا أرض الخرافات ِ.. احْبلى | لعلّ مسيحــاً ثانيـاً .. سوف يظهرُ .. | |
* ألقيت فى يناير 1971 فى ذكرى ميلاد القائد جمال عبد الناصر ... نزار قبانى ، الأعمال السياسية الكاملة ، بيروت : منشورات نزار قبانى ، 1993 ، الطبعة الخامسة ، ص 381 ـ 390. |