أبكيك .. لأنك كل الأحباب ارتحلوا

وأناديك .. لأنك كل الغرباء .. يعودون

حين ارتجَفَت تحت دموع القمر شجيرةُ زيتون

وتمنت لو يسهر منها فوق ضريحك ظلُّ

لو أعلم أن الموت سيسرق نورك من عينى

لضممت على نورك جفنى

خبأتك فى قلبى .. فوق حوار النبض الفانى ..

يا سيد أحزانى

***

يا وجهى الراحل عنى .. من غيرك يحمل حزنى ؟

لكن الموت جَسُورٌ يمشى بين الخطوات ، ويرهف سمعه

يدخل من شهقات القلب إلى الصدر .. ويرهف سمعه

يقف على أهداب العمر كهذا الخط الناحل بين البسمة والدمعه

يطفئ فوق الأرض شموعا ..

كى يوقد فى ذكرانا آخر شمعه

يا محبوبى :

أتذكر ليلاً مزق فيه القلب خفوقى العالى

حين صحوت على صوت الناعى .. يطلبنى فوق صليب ظلالى

كانت صورتك تطل على مخدع أرقى ..

وتكذَّب صوت الناعى

وتشبث دمعى بعيونك .. وامتد إلى كفيك ذراعى

حتى الخامسة صباحاً كنت أحدق فى عينيك الواعدتين

كنت أحدق فى نفسى

مندهشاً كصغيرٍ فقد الأبوين

والريح تدق على بيتى .. تنثرنى أجزاءً فوق الكون

يا من تقف على رابية الموت وتسأل عنى

لو أملك أن أرفع صوتى فوق الموت لتسمعنى

إنى فى بيت الوحشة .. منفرد الحزن .. أتبصرنى ؟

أتحدث طول الليل إليك

وبرغم غيابك عنى.. رحت أوسِّد جرحى بين يديك

وجهك يمنحنى ثقتى بحياتى

يمسح فوق جليد الوحشة عرقى

بسماتك تطفو فوق دموعى ، تنقذنى من غرقى

وأحاول أن أغفو فوق جناحى المكسور

والقمر كقنديل شتوى فى بيت مهجور

والأشياء الواجمةُ بدارى .. تسأل عنك وعنى

وتلفَّت صمتى ، والخوف الغامض يثقل بدنى

وأنين الأقدام الهابطة على السلم تجرى تستبق الأنباء

تتشاكى للأرض الثكلى ، والأرض تبث الشكوى للأقدام

وصغار الحى انتفضوا من دفء النوم على ريح الأحزان

ـ من لم يذرف قبل اليوم دموعاً .. يبكى الآن عليك

حتى القاتل والسارق ذابا فى توبة حزن بين يديك

العاشرة صباحاً كانت ساعة لقيانا الأولى من سنوات

لكنا جئنا فى العاشرة صباحاً

نتعثر فى لجلجة الخفقات

نخجل من أنّا أحياء .. ونحسد مجد الأموات

وجهك أوحشنى .. يا وجهى الراحلَ عنى

واشتقنا صوتك حين اخترت جلال الصمت

يا أول رجل يخرج من صلب بلادى

ويجسم حياً من دمع المظلومين

يومض فى عينيه حسام صلاح الدين

يتشح بثوب ابن الخطاب

ليس الحزن عليك حريقاً مجنوناً لبقايا الأعشاب

لكن الحزن عليك صلاة دموع تبنى المحراب

لم تبق دموع الناس عليك كلاماً للشعراء

ذهب الصوت .. فهل تقدر أن ترثيه الأصداء ؟

***

يا طائرة تعبر فى منتصف ليالى الحزن

صوتك يجرح ذاكرتى ، بعويل الطائرة السوداء

فى العاشرة صباحاً والموت يطير ويخترق الأضواء

وملايين الأصوات تشد الطائرة .. بأيدى الاصداء

ـ عبد الناصر ..

يا عين بلادى .. والناس جميعا حولك أهداب

يا روح بلادى الأخضر

أَوَترقد فى هذا الصندوق المغلق ؟

النعش المصنوع من الزان يضم الفلاح الأسمر

زارع شجر الزان

ما أقسى أن يعبر نعشك من دارك أو دارى

ويراك صغارك تمشى متئداً فوق الجرح العارى

قف ، لا تسرع يا محبوبى بالركب السارى

مازلنا فى منتصف العمر

يا من كنت ترد على الأطفال بمنديل البسمات

نادوك .. فما ردت إلا الدمعات

يا من مت شهيداً من أجلى

أقسم بحياتك أن أحيا من أجلك

كل الأيام حدائق تذكار .. تحلم فى ظلك

رغم سكونك .. أنت الصوت الأقوى

قلبى فوق ضريحك شمعة ذكرى

صوتك تكبير سنابلنا

وحديثك فى قلب الليل صلاة الأجراس

لن ننساك

أتنسى العين شعاع النور الكامن فيها ؟

أبكيك، لأنك كل الأحباب ارتحلوا

وأناديك .. لأنك كل الغرباء يعودون ..

 


* محمد الجيار، "أقوى من الألم"، (فى) حسن توفيق، جمال عبد الناصر: الزعيم فى قلوب الشعراء، (الدوحة : العالمية للطباعة والنشر، 1996)، ص 123 – 131.