من يا حبيبى جاء بعد الموعد الضروب للعشاق فينا

الفجر عاد ، ولم أزل سهران أستجلى وجوه العابرينا

فأراك ! لكن بعد ما اشتعل المشيب وغضن الدهر الجبينا

لا تبتئس أنا تأخرنا !

فبعد اليوم لن يصلوا لنا ليفرقونا !

ورأيت جارى فى قطار الليل يبكى وحده ،

ويضيع فى ليل المدينه

وجه ذكرت به مواكبك التى كانت طعام العام ،

للفقراء أبناء السبيل

يتخطف التجار والعسس الصغار وجوههم فى كل

أمسية ، فيطوون الضلوع على محياك النبيل

يأتى غدا فينا !

ويكمل فى مسيرة شعبنا المقهور دينه

يأتى غدا فينا !

ويجعلنا له جندا وحاشية ،

ويجعل من منازلنا حصونه

يأتى غدا فينا !

يبوح بسرنا الخافى ، ويسلمنا ودائعنا الدفينه

يأتى غدا !

ويجف دمعهم ويبتسمون فى الحلم الجميل !

حت يدور العام دورته ،

فتدعوهم إليك ، تمد مائدة

وتفرط فوقهم ثمر الفصول

وتسل سيفك فى وجوه عدوهم

وتعود منتصرا تحيط بك المدائن والحقول

زدنا ! وتعطيهم ، وتطعمهم وتسقيهم ،

إلى أن يملأ الفرح السفينه

يتحقق الحلم الجميل لليلة يتزودون بها ،

وينحدرون فى الليل الطويل

يتنظرون على مداخل دورهم أن يلمحوك مهاجرا ،

تلقى عصا التسيار تحت جدارهم يوما ،

وتمسح عنهم تعب الرحيل

لكن بدر الليل لم يشرق علينا من ثنيات الوداع

ونعاه ناع !

يتمزق الصمت الحدادى الكئيب على انحدار قطارنا

فى الليل وهو يمر منتحبا بأطراف المدينه

يجتاحنا هم ثقيل أنها اقتربت ،

فماذا نبتغى بعد الوصول

والليل أثقل ما يكون ،

كأن طير الموت لم يبرح يرف بجناحيه الأسودين ،

على الكآبة والسكينة

تتراجع الأشجار هاربة

وتشخص حولنا الأشياء ثم تميل ساقطة

وتمعن فى الأفول

وأشد صاحبتى ونرحل  فى زحام الناس ،

لا ندرى غدا ماذا يكون ،

وكيف تشرق شمسه فينا ولست على المدينه !

لم لم يمت ! وخرجنا

نجوب ليل المدينه

ندعوك فاخرج إلينا

ورد ما يزعمونه

إن كنت عطشان ، كنا

إليك ريحا ونهرا

أو كنت جوعان ، كنا

خبزا وملحا وتمرا

أو كنت عريان ، كنا

ريشا ، وكنا جناحا

أو فى غيابات سجن

كنا مدى وسراحا

أو كنت مستنصرا ،

كنا السيف والأنصارا

أو تائها فى الصحارى

كنا القرى والدارا

تعود فينا فقيرا وعاريا وغريبا

تصير فينا ، فتعطى الرماد هذا اللهيبا !

كنا نفتش عنك فى أنحائها

والليل يوغل ، والمقاهى بعد يقظى ،

والمصابيح الكليلة ، والعيون

متطلعين ! كأنما من شرفة سنراك تظهر ،

أو من الراديو تصيح بملء صوتك ،

ساخرا مما ادعاه المدعون

أو أن إنسانا سيخرج هاتفا فى الليل :

عاد إلى الحياه !

أو أنها هى ليلة الغار التى ستغيب فيها ،

ثم تشرق فى المدينه

نلقاك فيها ناشرين أكفنا ظلا عليك ،

وجاعلين صدورنا درعا حصينه

لكن أضواء المصابيح تسللت من خلف قاهرة المعز ،

ولم تلح للساهرين !

ومشت رياح الأرض ، أوراق الجرائد فيك ،

بالنبأ الحزين !

فإذن هو النبأ اليقين !

واناصراه !

مالت رؤوس الناس فوق صدورهم ،

وتقبلوا فيك العزاء

وأجهشت كل المدينة بالبكاء !

كونى ندى يا شمس أو غيبى

فاليوم يرحل فيك محبوبى !

كونى ندى يا شمس هذى اليوم

عين الحبيب استسلمت للنوم !

ورأيت فى الطرقات قاهرة سوى الأخرى ،

تفجرت المصيبة عن مداها

خرجت إليك مع الصباح كأنها مادت ،

وعادت مرة أخرى تموج بما تخبئ فى حشاها

تتدفق الأحياء حيا بعد حى حول مجرى نيلها ،

وتغيب فى أجساد أهليها الشواهق والصروح

ويضيع فى أبنائها الباكين أبناء المماليك الصغار ،

ويلمع النجم القتيل على ذراها

وترفرف الشارات

تندلع المناديل الصغيرة فى سواد جنائز الصبح الفسيح

لا لم يمت !

وتطل من فوق الرؤوس وجوهك السمر الحزينه

لم يبق منك لنا سواها

تتشبث الأيدى بها

فكأنما أصبحت آلاف الرجال

وكأنما أصبحت للكف التى حملتك ملكا خالصا

فلكل ثاكلة "جمال" !

ولكل مضطهد "جمال" !

يا أيها الفقراء !

يا أبناءه المتنظرين مجيئه .. هو ذا أتى !

خلع الإمارة وارتدى البيضاء والخضراء

وافترش الرمال

هو ذا أتى !

ليمر مرته الأخيرة فى المدينه ،

ثم يأوى مثلكم فى كهفها السرى يستحيى لظاها

يستنهض الموتى ، ويجمعكم ويصعد ذات يوم

مثل هذا اليوم ،

يعطيكم منازلها ، ويمنحكم قراها

هو ذا أتى‍‍ !

فدعوه أنتم يا مماليك المدينة ،

إننا أولى به يوم الرحيل

نبكيه حتى تنضب المقل الضنينه

نبكيه حتى ترتوى الأرض التى لابد سوف نهز

نخلتها ،

ونطعم من جناها !

يتنزل الجسد المسجى فى خضم الناس .

يصبح ملك أيديهم ، وترتحل السفينه

وتلوح الأيدى !

نحس كأن خرجنا من مدينتنا إلى بلد غريب

يتواثب الأطفال فوق الأمهات الباكيات ،

وتحمل الأجيال أجيالا ، وتنفجر المدينه

بحر من الحزن المروع ،

آه! كم جيل من الجدات تمتلئ السماء بهن ،

يمطرن المدينة بالمراثى وهى تمشى فى فتاها !

يا أيها الحزن مهلا واهبط قليلا قليلا

استوطن القلب واصبر ع العين صبرا جميلا

أيامنا قادمات وسوف نبكى طويلا

هذا حصانك شارد فى الأفق يبكى ،

من سيهمزه إلى القدس الشريف !

ومن الذى سيكفن الشهداء فى سينا ومن يكسو

العظام

ويثبت الأقدام إذ يتأخر النصر الأليم ونبتلى

بمخاضه الدامى العنيف

ومن الذى تغفو عيون المريمات على اسمه ،

أن المعاد غدا إلى أرض السلام

ومن الذى سيؤمنا فى المسجد الأقصى ،

ومن سيسير فى شجر الأغانى والسيوف

ومن الذى سيطل من قصر الضيافة فى دمشق ،

يحدث الدنيا ويلحقها ببستان الشام

ومن الذى سيقيم للفقراء مملكة وتبقى ألف عام

ومن الذى سنعود تحت جناحه لبيوتنا،

نحيا ونسعد بالحياه

هذا حصانك شارد فى الأفق يبكى ،

والمدائن فى حديد الأسر تبكى .. والصفوف

تبكيك .. والدنيا ظلام !

لو كنت أعلم أن يوم الملتقى سيكون فى ذاك النهار

لقنعت منك بزورة فى كل عام ، وارتضيت الانتظار

ها أنت فى دارى ، فمن للأرض والمدن الأسيرة ،

والصغار

أمسك عليك حصانك الباكى وسيفك ،

إن رحلة حبنا

ستكون حربا .. لا يقر لها قرار !

                                    أكتوبر 1970


* أحمد عبد المعطى حجازى ، الأعمال الكاملة ، الكويت : دار سعاد الصباح ، 1993.